حلبجة في ذكراها الـ37.. الوجع الذي لم يسكن والعدالة التي لم تُولد

مركز الأخبار

في حضن الربيع، وبينما كانت زهور النرجس تتفتح على سفوح جبال كردستان، امتدت يد الموت من السماء، حاملةً رائحة الفناء بدل عبير الحياة. هناك، في مدينة حلبجة الوادعة، لم يكن الندى الذي تساقط صباح السادس عشر من آذار يحمل بشائر النور، بل كان ظلًّا كثيفًا من الغازات السامة، خنق الأرواح قبل الأنفاس، وترك خلفه جرحًا غائرًا في جسد الإنسانية لا يندمل.

حلبجة لم تكن مجرد مدينة أُبيدت، بل كانت صرخة ألم معلّقة في ذاكرة التاريخ، وشاهدًا صامتًا على قسوة الطغيان، حين تُستهدف الحياة ببراءتها وعطرها، وتُحوَّل الأرض من مرجٍ أخضر إلى مقبرةٍ جماعية. سبعة وثلاثون عامًا مرّت، وما زالت رائحة الغاز تملأ الذاكرة، وما زال صوت الأطفال وهم يختنقون يرتج في ضمير العالم… إن كان للعالم ضمير.

كيف حدث قصف حلبجة بالسلاح الكيميائي؟

كان فصل الربيع قد بدأ، وزهور النرجس تفتحت حديثًا تحت أشعة الشمس، وكان الناس يستعدون للاحتفال بعيد نوروز بملابسهم الكردية الزاهية. وفي الجانب الآخر، كان النظام مستمرًا في محاولاته للقضاء على الكرد، في حين كانت قوات البيشمركة تواصل عملياتها وتردّ على هجمات النظام، فكان الناس يقضون لياليهم على وقع صافرات الإنذار.

في تلك الأوضاع، لم يجد نظام البعث وسيلة لضمان استمرار سياسة القمع والإبادة إلا من خلال قصف المدنيين العزّل بالأسلحة الكيميائية. فبدأ الأمر بإسقاط منشورات ورقية تحدد اتجاه الرياح، ثم تبعها الهجوم الكيمياوي على المنطقة.

سعى الأهالي لحماية أنفسهم بالنزول إلى الملاجئ، لكن عبر عدد من الطائرات التي كانت تحمل قنابل كيميائية محظورة، تم قصف المنطقة، فتحوّلت حلبجة في لحظة من ربيعها المزدهر إلى مقبرة مظلمة ومحترقة. وفي مشهد مأساوي، استشهد خمسة آلاف مدني وأكثر من عشرة آلاف أصيبوا وتشرّدوا، بعضهم لا يزال مفقودًا حتى اليوم.

تحوّل هذا الحدث إلى جرح دائم في ذاكرة الشعب الكردي، ولا يمكن لأي كردي في أي جزء من كردستان أن يمر من أمام حلبجة دون أن تدمع عيناه. كما أصبح هذا الحدث مصدرًا لكثير من الأعمال الفنية والأفلام والقصص، أشهرها أغنية “لا تتركوني وحدي” بأداء الفنانين هيدي قادري وعلي عبدي، وكلمات الشاعر رفيق صابر.

أصبحت حلبجة الدليل الوحيد الملموس لدى المجتمع الدولي على أن نظام صدام امتلك أسلحة محظورة وارتكب جرائم إبادة جماعية، وشكّلت دليلًا قويًا لا يمكن إنكاره على الجرائم التي ارتكبها النظام بحق الشعب الكردي طوال ٣٥ عامًا من حكمه.

بعد ٣٧ عامًا لا تزال المطالب غير منفذة

مرت ٣٧ سنة على تلك الكارثة، وما زال الأهالي ينتظرون التئام جراحهم وتحقيق العدالة، لكنهم لا يزالون يشتكون من الحرمان من أبسط الخدمات الأساسية. واليوم، مع حلول الذكرى السنوية الـ٣٧ لتلك الجريمة، يقدّم ذوو الضحايا والجهات المختصة ثماني مطالب رئيسية لكل من رئاسات العراق الثلاث وحكومة الإقليم، أهمها:

  • أن تتخذ حكومة الإقليم خطوات عملية لخدمة ذوي الشهداء والأطفال اليتامى والجرحى وضحايا الهجوم الكيميائي وتبعاته على سكان حلبجة والمناطق المحيطة بها.
  • أن تُراعى خصوصية مدينة حلبجة وتضحيات أهلها عند تخصيص المشاريع والخدمات، وليس فقط بناءً على عدد السكان.
  • أن تمارس حكومة الإقليم الضغط على الحكومة العراقية لتحمّل مسؤولياتها تجاه ضحايا حلبجة وتنفيذ الالتزامات المتعلقة بهذه الجرائم.
  • إصدار قرار من حكومة الإقليم لاستئناف المشاريع المتوقفة في حلبجة.
  • تخصيص ميزانية سنوية لمعالجة ضحايا الأسلحة الكيميائية.
  • أن تكون أولى خطوات برلمان الإقليم الجديد هي الاعتراف بتلك الجريمة كجريمة إبادة جماعية (جينوسايد).

ورغم التغطية الإعلامية الواسعة والتصريحات الرسمية المتكررة في كل عام، يرى الأهالي أن ما يُقال لا يتعدى كونه وعودًا لا تجد طريقها إلى التطبيق، مؤكدين أن قضية حلبجة لا يجب أن تُختزل في شعارات موسمية، بل تستحق عدالة حقيقية ورد اعتبار شامل.

وتبقى مجزرة حلبجة جرحًا مفتوحًا في الذاكرة الجماعية للشعب الكردي، ودليلًا دامغًا على الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي السابق بحق المدنيين، وشاهدًا على تقاعس المجتمع الدولي في محاسبة المسؤولين عنها بالشكل العادل.

وفي الوقت الذي تُحيي فيه حلبجة ذكراها المؤلمة، يبقى الأمل معقودًا على خطوات جادة تُنصف الضحايا وتعيد الاعتبار إلى مدينة قدّمت دماء أبنائها فداءً للحرية والكرامة.