“أزمة المثقف” في حوار فكري.. كاتب سوداني يطرح الأمة الديمقراطية كطريق للحرية والمساواة

محمد جهادي

مع عصف الأزمات في المنطقة، تبرز أسئلة مصيرية تتعلق بالهوية الوطنية ومسؤولية المثقف بينما تظل الفلسفة النقدية حاجة ملحة وأن غابت الثقافة، ففي مجتمعاتنا يواجه الناس تحديات ناتجة عن إيمان “قدرية” تعيق التفكير النقدي مما يترك الأفراد أسيرين لأفكار جامدة ويبقى السؤال: هل نحن بحاجة إلى الثقافة وحدها لتحقيق النهضة؟ أم أن الفلسفة والفكر النقدي يلعبان دورًا حيويًا في هذا السياق؟

تساؤلات أخرى تُطرح حول الهوية الوطنية، وكيف يمكن بناء هويات جامعة في مواجهة التفكك الاجتماعي والتعددي في مجتمعاتنا؟ كيف يمكن لعلم الاجتماع أن يسهم في تحديد مسارات جديدة نحو الوحدة، بعيدًا عن أيديولوجيات قاتلة تقسمنا؟ وفي ظل التحديات السياسية، كيف يمكننا تجاوز الصراعات الأيديولوجية التي تحكم مصيرنا، وفتح الطريق نحو حلول مستدامة تضمن الحرية والعدالة للجميع؟

 ويرى الكاتب والباحث السوداني زكريا نمر، انه “في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، نواجه تحديات كبيرة نتيجة التدهور الفكري الناجم عن هيمنة ثقافة الاستهلاك، وانهيار نظم التعليم الحر، وسيطرة النخب على الإعلام والثقافة”، قائلا في حوار مع “روج نيوز” إن “الدولة القومية تقليديًا لم تحقق الحرية المنشودة بسبب تركيز السلطة. في المقابل، يقدم نموذج الأمة الديمقراطية، الذي يعتمد على اللامركزية والتعددية السياسية والثقافية، آفاقًا أوسع للحرية والمساواة”.

هنا نص الحوار:

-في ظل الأزمات الهيكلية التي تواجهها مجتمعات الشرق الأوسط وأفريقيا، يزداد الحوار حول الهوية الوطنية وأهمية المثقف. ما رأيك في هذا الدور؟

المجتمع الذي نعيش فيه يواجه أزمة عميقة ليست عابرة، بل هي أزمة بنيوية ناتجة عن تراكمات تاريخية وسياسية واقتصادية وثقافية معقدة. في هذا الواقع يتحمل المثقف مسؤولية كبيرة، ليس فقط كونه صوتًا ناقدًا، بل لأنه يمتلك وعيًا وأدوات فكرية قادرة على تحليل هذه الأزمة. ومع ذلك، لا يتحمل المثقف وحده هذه المسؤولية، فالنظم السياسية في المنطقة، التي تسيطر عليها أنظمة استبدادية أو شبه ديمقراطية، تعيق حرية الفكر والتعبير، مما يجعل المثقف يعيش في حالة من القيد المزدوج بين مجتمع يعاني من الأزمات وأنظمة قمعية. يتطلب الخروج من هذه الحالة تحالفًا بين المثقف الحقيقي الذي يمتلك الشجاعة الفكرية، وبين فئات المجتمع النشطة مثل الشباب والنساء والحركات المدنية، الذين يسعون لتحقيق التحول السياسي والاجتماعي.

-هل تعتقد أن الثقافة وحدها تكفي لنهضة المجتمعات، أم أن الفلسفة ضرورية أيضًا؟ وما الحاجة إلى المثقف والفيلسوف في هذا السياق؟

تُعتبر الثقافة والفلسفة وجهين لعملة واحدة، إلا أن لكل منهما دورًا مختلفًا. الثقافة تمثل الأسس والمرجعيات التي تشكل هوية المجتمع، وتتضمن العادات، اللغة، الفن، والتاريخ. في المقابل، تُعد الفلسفة أداة للتأمل النقدي، تدفعنا لطرح الأسئلة الجوهرية: من نحن؟ كيف نعيش؟ وما هي قيمنا؟

بدون الفلسفة، قد تظل الثقافة محصورة في تقاليد جامدة، بينما بدون الثقافة، تصبح الفلسفة مجرد نظريات بعيدة عن الواقع. لذا، نحتاج إلى المثقف الذي يساهم في إحياء الثقافة وتجديدها، وإلى الفيلسوف الذي يحرر العقل من الركود ويشجعه على التفكير النقدي والتغيير.

في مجتمعاتنا، يواجه الناس تحديات ناتجة عن إيمان “قدرية” تعيق التفكير النقدي. لذلك، من الضروري تعليمهم كيفية طرح الأسئلة بدلاً من قبول الإجابات الجاهزة.

– في رأيك، هل تتطور المجتمعات من خلال تربية الأسئلة أم بطرح الأجوبة؟ وما الخطوات لبناء مجتمع منتج فكريًا وثقافيًا في ظل التحديات التي تعانيها منطقتنا؟

التطور الحقيقي ينطلق من تعزيز ثقافة السؤال، حيث يُعتبر السؤال بمثابة شرارة الفكر وأساس النقد والابتكار. المجتمعات التي تركز فقط على الأجوبة تبقى في حالة جمود وتعاني من إقصاء الأصوات المتنوعة.

في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، نواجه تحديات كبيرة نتيجة التدهور الفكري الناجم عن هيمنة ثقافة الاستهلاك، وانهيار نظم التعليم الحر، وسيطرة النخب على الإعلام والثقافة.

لإقامة مجتمع فكري منتج، يجب الاستثمار في التعليم الذي يعزز التفكير النقدي، ودعم المؤسسات الثقافية المستقلة، وتعزيز حرية التعبير والمشاركة المدنية. ينبغي على المثقفين تشكيل تنظيمات مدنية قادرة على التعبير عن آراء المجتمع وممارسة ضغط مستمر على السلطات.

-مصطلحات مثل (الوطن، الوطنية، العرقية، المذهبية، الدين، السيادة، الاستقلال، الحرية) غالبًا ما تحولت إلى هويات قاتلة في منطقتنا. كيف يمكن بناء هويات جامعة؟ وما دور علم الاجتماع في ذلك؟

تتجاوز هذه المصطلحات في واقع السياسي والاجتماعي كونها مجرد كلمات، إذ أصبحت أدوات تُستخدم لإشعال الصراعات والنزاعات بدلاً من تعزيز الوحدة. لبناء هويات شاملة، يتعين علينا تطوير مفهوم جديد للمواطنة يستند إلى التعددية والاحترام المتبادل وحق الاختلاف، مما يتطلب رفض الأحادية السياسية والدينية والعرقية. يمكن لعلم الاجتماع أن يلعب دورًا مهمًا من خلال إجراء دراسات علمية حول التفاعل بين الجماعات المختلفة، ونماذج التعايش السلمي، وتحليل الهياكل الاجتماعية التي تؤدي إلى الانقسامات.

أما بالنسبة للسؤال حول إمكانية تحقيق الحرية من خلال الدول الوطنية كما يراها اليسار، أو من خلال بناء المجتمع الديمقراطي كما اقترحه السيد عبدالله أوجلان، أرى أن الدولة القومية تقليديًا لم تحقق الحرية المنشودة بسبب تركيز السلطة. في المقابل، يقدم نموذج الأمة الديمقراطية، الذي يعتمد على اللامركزية والتعددية السياسية والثقافية، آفاقًا أوسع للحرية والمساواة.

-على الرغم من وجود عدد كبير من الدول الوطنية، لا تزال المنطقة تسعى لتحديد هويتها. فهل تكمن المشكلة في مفهوم الدولة الوطنية ذاته أم في دور المثقف؟

غالبًا ما تُبنى الدولة الوطنية في الواقع على أسس مركزية استبدادية، حيث تتركز السلطة في أيدي نخبة ضيقة تستبعد شعوبها، مما يؤدي إلى أزمة في تشكيل هوية شاملة. من جهة أخرى، يتقاطع المثقف، للأسف، أحيانًا مع هذه السلطة أو ينقسم بين تيارات فكرية لا تتجاوز حالة الانقسام والتجزئة، مما يقلل من قدرته على القيام بدور بناء.

الحل لا يأتي من جهة واحدة، بل يتطلب إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حقيقية وتمكين المثقف الحقيقي ليكون صوتًا ناقدًا وفاعلًا.

كيف نخرج من الصراعات بين أيديولوجيات مختلفة مثل دكتاتورية البروليتاريا أو الحلول الدينية؟ وهل الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي قادران على حل مشاكل منطقتنا؟

تُعَدُّ الصراعات الراهنة نتيجة لتراكمات أيديولوجية ضيقة تحولت إلى نزاعات مسلحة ومجازر. لذا، من الضروري تجاوز هذه الأيديولوجيات لصالح مشروع فكري سياسي جديد يركز على الحرية والعدالة والمشاركة الديمقراطية. غالبًا ما تعكس الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي مصالح النخب الحاكمة، ولا تعبر عن إرادة الشعوب. يكمن الحل في إنشاء جبهات شعبية حقيقية من المجتمع المدني تضم جميع القوى التقدمية، وتعمل على الضغط على الأنظمة لإحداث التغيير.

-هل يمكن تطبيق الاشتراكية في ظل التحديات التي تواجه منطقتنا؟ وكيف تؤثر الدول القومية على الفئات المستبعدة مثل المرأة والشباب؟

تواجه الاشتراكية في صورتها التقليدية العديد من التحديات في منطقة العربية و إفريقيا، مثل التعدد العرقي والديني، والنزاعات المسلحة، وضعف الدولة. ومع ذلك، يمكن تكييف مبادئ الاشتراكية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتقليل الفوارق لتناسب خصوصياتنا، مما يسهم في بناء مجتمعات أكثر عدلاً.