أستانا… اجتماع الدول المتصارعة

مركز الأخبار/ مصطفى علو

بين النظام السوري المنتشي بإعادته إلى جامعة الدول العربية، وروسيا العالقة في المستنقع الأوكراني، وإيران التي تواجه ضغوطات غربية كبيرة، ودولة الاحتلال التركي التي تعاني من أزمات سياسية واقتصادية وانقساماً حاداً في صفوف مجتمعها، يُعقد اجتماع في 20- 21 من حزيران الجاري في نسختها العشرين.

الاجتماع الذي يعقد في مدينة أستانا الكزخية لا يُتوقع منه الكثير وبخاصة أنه على مستوى نواب وزراء الخارجية، ولا يمكن لهم اتخاذ قرارات حاسمة دون الرجوع إلى قياداتهم العليا. ومن المرجح أن تكون الأفكار المطروحة في هذا الاجتماع للتداول وليس لاتخاذ القرار، مما يقلل من سقف التوقعات المتعلق بهذا الاجتماع.

العامل الثاني الذي يجعل من اجتماع أستانا دون طموحات الدول الأربعة (روسيا، إيران، النظام السوري، دولة الاحتلال التركي) هو وضعها الحالي والأزمات الداخلية التي تعصف بكل دولة على حدا، والضغوط الخارجية التي تتعرض لها إلى جانب وجود قوى أخرى فاعلة على الميدان السوري تتعارض مصالحها وتطلعاتها مع رباعي أستانا.

وعلى الصعيد الداخلي، صحيح أن النظام السوري أُعيد إلى الجامعة العربية في الـ 7 من أيار الماضي بعد نحو 12 عاماً من تجميد عضويته، إلا أن هذه العودة لن تكون مجاناً بكل تأكيد. ولا يمكن للدول العربية إعادة سوريا دون شروط ومن الصعب جداً أن يكون القرار العربي الرسمي مناقضاً للرؤية الأمريكية والأوروبية للحل في سوريا (مجابهة النفوذ الإيراني والروسي) وإن لم يكن متماشياً تماماً مع الموقفين الأمريكي والأوروبي.

مقاربة (خطوة مقابل خطوة) التي كانت ثمن عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية ستفرض على الأول تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وكذلك رسم حدود للغطرسة التركية في الأراضي السورية. نظرياً قد تبدو عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية انتصاراً في عيون بشار الأسد وداعميه، ولكن من المتوقع أن تمارس الجامعة العربية ضغوطاً على الأسد؛ لإرغامه على تحجيم النفوذ الإيراني وكذلك إبداء حزم تجاه التوغل التركي في الأراضي السورية، وهذا بحد ذاته سيشكل صداعاً للنظام الذي وقف على قدميه بدعم إيراني وروسي.

إذاً النظام في وضع لا يحسد عليه، الابتعاد عن الصف العربي مكلف، والتصادم مع إيران وروسيا يهدد عرشه، وبذلك سيبقى التساؤل بشأن كيفية تحقيق التوازن بين المتصارعين على الأرض السورية متروكاً للمرحلة القادمة، إلا أن المؤكد سيكون له تداعيات على النظام السوري حتى لو كانت له بعض الارتدادات الإيجابية على الموقف التفاوضي للأسد.

بالنسبة لإيران التي بدأت بتبني سياسة أكثر مرونة مع محيطها العربي عبر إعادة علاقاتها مع بلدان الخليج العربي بداية من السعودية يظهر أنه اضطرار أكثر من أنه خيار. نعم تمتلك إيران ميراث الدولتية منذ نحو 2500 عام ولها أذرع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفي بعض بلدان الخليج العربي عبر الشيعة الذين يتبنون التوجه الإيراني القائم على تصدير “الثورة الإسلامية”، لكن هذه “إيران المتمددة في عدد من البلدان” واجهت انتفاضة كبيرة بعد قتل جينا أميني في منتصف أيلول من العام الفائت.

وكشفت هذه الانتفاضة هشاشة إيران من الداخل، ناهيك عن وجود إسرائيلي وتركيا عضو حلف الشمال الأطلسي على حدودها مع أذربيجان، والمناوشات الأخيرة مع حركة طالبان على حدود أفغانستان، والتي من غير المرجح أنها كانت من قبيل المصادفة بقدر ما هي مناوشات مفتعلة ورسالة تحذير إيران بإمكانية إشغالها بحرب على حدودها، وهو ما سعت إيران لتداركه على الفور.

كما أن حليفة إيران الأساسية، روسيا، لم تعد بنفس القوة التي كانت عليها قبل الـ 24 من شباط عام 2022، أي قبل بدأ الهجوم على أوكرانيا. تراجع القوة الروسية ترك المجال لإيران لزيادة نفوذها في سوريا، ولكن بالنظر إلى الوضع من زاوية أوسع فإن ضعف روسيا يعني ضعف إيران.

روسيا التي اعتقدت أنها ستذهب في نزهة إلى أوكرانيا وتتفاخر بصناعاتها العسكرية المتطورة وبخاصة منظومات دفاعها الجوي، انكشفت في حربها ضد حلف الشمال الأطلسي على الأراضي الأوكرانية، وكانت الضربات الجوية المزعومة على الكرملين وما تبعه من هجوم بالمسيّرات على قلب العاصمة موسكو دلالات واضحة على المأزق الذي تعيشه روسيا ويبدو أنها لن تتخلص منه في وقت قريب مع استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا واحتمالات تزويد الأخيرة بمقاتلات F-16 التي ستشكل تغيراً كبيراً في موازين القوى على الأرض وسيكون له تداعيات على داخل روسيا ومكانة روسيا في الساحة السياسية الدولية.

أما الدولة التركية الفاشية التي يقودها تحالف فاشي مكون من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومي المتطرف، فإنها تعاني من وضع صعب على الصعيد الداخلي والخارجي. الليرة التركية تواصل الهبوط ونتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في أواخر أيار الفائت كشفت تراجع شعبية الحزب الحاكم بعد عقدين من اعتلائه السلطة في تركيا، حيث خسر الكثير من المقاعد البرلمانية وتراجع التصويت لرئيسه الفاشي رجب أردوغان الذي اضطر لخوض جولة ثانية من الانتخابات بعدما كان يحسمها من الجولة الأولى في مناسبات ماضية.

صحيح أن أردوغان الفاشي يعتبر تلك النتائج انتصاراً، لكنه على الأرجح يعرف أن سياسات الإبادة التي يمارسها بحق الكرد في شمال كردستان لم تؤت أُكلها حيث رفض الكرد إعطاء أصواتهم لأردوغان بالرغم من سياسات الترغيب والترهيب المتوازية التي طبقها خلال العقدين الفائتين.

تصويت الغالبية العظمى من سكان المدن الكبرى لخصمه في المدن التركية الكبرى هو أيضاً دلالة على الشرخ الكبير في صفوف المجتمع التركي بين راغب بالتغيير وشريحة أخرى منتفعة من السلطة تريد استمرارها بغض النظر عن التبعات.

وعلى ضوء هذا الوضع المأزوم للدول الأربعة، واستمرار الرفض الأمريكي والأوربي للتطبيع مع النظام السوري، سيُعقد اجتماع أستانا في الـ 20 – 21 من حزيران وهي العشرين على مر الأزمة السورية، حيث ستبحث كل دولة عن تحقيق مصالحها وإيجاد مخارج لأزماتها المستعصية، لكن بدون أي شك في كل جولة من مسار استانا كانت هناك تغييرات على الأرض.

بين هذا وذاك، تبقى الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا النور الوحيد في آخر النفق السوري المظلم التي لها مشروع قائم على الأرض ومقومات جغرافية واقتصادية تاريخية وشبكة واسعة من العلاقات في الداخل والخارج ولها خارطة حل واضحة الملامح طرحته في الـ 18 من نيسان الماضي، ولقيت تفاعلاً إيجابياً في عدد من العواصم العربية الفاعلة في الملف السوري.

ومن المؤكد أن نضال الشعوب المتعايشة في مناطق الإدارة الذاتية ومستوى تنظيمها الذاتي سيلعب دوراً رئيساً في رسم خارطة سوريا والشرق الأوسط في المستقبل، وسط صراع قوى الهيمنة لفرض مشاريعها الدخيلة على منطقة صمدت طوال قرون أمام سياسات الإبادة الجسدية والصهر الثقافي.

وستكون المرحلة المقبلة حُبلى بالتغييرات، فهل ستكون لصالح الشعوب أم لصالح القوى المهيمنة؟ النضال سيحدد بوصلة التغييرات.